-->

أحدث المواضيع

2020-12-08

هل وظيفة اللغة هي التواصل فقط ؟

هل وظيفة اللغة هي التواصل فقط ؟

هل تقتصر وظيفة اللغة على التواصل فقط ؟

   طرح المشكلــــــــــة :

    لقد إقترن وجود الإنسان بقدرته على التواصل مع بني جنسه من خلال ملكة اللغة، التي يميل عدد من الفلاسفة و المفكرين إلى تعريفها : بأنها ذلك النسق المنظم من الإشارات و الرموز التي تصلح للتواصل بين بني البشر مع القصد في إستعمالها و تطويرها ،وكما يعرفها الجرجاني: هي كل ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم،فاللغة وسيلة أساسية للتفاهم والتواصل بين الناس ،وأداة لا غنى عنها في التعامل بها في حياتهم سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ،و على حد تعبير القاموس الفرنسي"la Roussse" فإن اللغةlangage : تعني الكلام. إلا أن بساطة تعريف اللغة بإقتصارها على وظيفة التواصل الإجتماعي فقط، كان محل إختلاف و تضارب للأراء بين الفلاسفة وعلماء اللغة حول وظائف اللغة، فإنقسموا إلى قسمين متعارضين: قسم يرى بأن وظيفة اللغة لا تتعدى التواصل لبناء الحياة الإجتماعية، والقسم الآخر يؤكد بأن وظيفة اللغة تتجاوز التواصل الإجتماعي الضيق لتعبر عن الفكر والحضارة و القيم التراثية و البواعث النفسية،ومنه طرحوا التساؤل: هل اللغة كوسيلة يعتمد عليها الإنسان للتواصل فقط،أم لها وظائف أخرى متنوعة تعبر عن حضارة الإنسان وإبداعه الفكري؟ وبصيغة أخرى : هل تنحصر وظيفة اللغة في تحقيق التواصل بين الفرد والمجتمع فقط؟

- محاولة حل المشكلة:

  الأطروحة الأولي:وظيفة اللغة لا تتعدى التواصل لبناء الحياة الإجتماعية

   يذهب افلاطون قديما والمدرسة الإجتماعية (دوركايم،هالفاكس)،والمدرسة اللسانية المعاصرة (جوليا كرستيفا،غوسدورف،فون فريش) أن وظيفة اللغة لا تتعدى التواصل لبناء الحياة الإجتماعية ، فأفراد الجماعة يحتاجون للتواصل بينهم ونقل أفكارهم وإهتماماتهم لبعضهم البعض، وذلك لا يتم إلا باللغة، يقول جون لوك :(لن نستطيع أن نتمتع بمزايا الحياة الإجتماعية وسهولتها بدون أن يكون هناك إتصال بين الافكار)،فالإتصال يمثل حياة الفرد و الجماعة ، وبقدر قوة الإتصال تقوي اللغة ، وبضعفه تضعف اللغة ، وهذا ما عبر عنه دو لاكروا بقوله: (اللغة مؤسسة أو عمل إجتماعي يسجل في فكر كل فرد من أفراد الجماعة، او هي مجموعة من المصطلحات تتبناها هيئة إجتماعية ما،لتنظم بواسطتها عملية التخاطب بين أفرادها). ونفس الموقف نجده عند الدكتور:أحمد محمد معتوق بأن الوظيفة الإتصالية للغة تمثل قمة النشاط الإجتماعي حيث يقول:(عملية الإتصال طريق للتعايش الإجتماعي وأساس للمشاركة في المعرفة البشرية وسبيل لإستمرارية الحضارة).

 الحجج والبراهين:

   حجتهم في ذلك أن الإنسان إستمد لغته من الطبيعة ، حيث يثبت أفلاطون أن اللغة نشأت للتواصل عندما حدث أول تجمع إنساني إحتاج أفراده للتواصل فيما بينهم ،فإستخدموا أدواته المتاحة في الطبيعة من أصوات و رموز وإشارات، وهذا ما أكده النمساوي فون فريش الذي لا يرى فرق بين لغة الإنسان و لغة الحيوان على أساس أن كلاهما يؤدي وظيفة للتواصل . إضافة أن غياب اللغة بمعناها الوضعي الإصطلاحي يعزل الإنسان إجتماعيا في دائرة ضيقة لا تزيد على ما يعيشه الحيوان، فالطفل الرضيع لا يدري ما يدور حوله من حديث وكلام ، ولا يحسن قراءة التعابير الجسدية للمحيطين به فلا يرد على هذه الرسائل،و لكن بمجرد البدء في نطق كلمته الاولى ، ويفهم نسبيا ما يقال له يندمج إجتماعيا ،كما أن التواصل هوتبادل الكلام و الأفكار والمشاعر، مما يجعل مهمة اللغة إدماج الأفراد داخل إطار نظام إجتماعي واحد يسمى العرف والمعتقد،فتتميز كل جماعة بلغة تخصها تعبر عن حاجياتهم الإجتماعية و طرق تنظيم حياتهم، و مقومات التواصل قائمة على عوامل اهمها: 1-المرسل: وهو الطرف المبلغ للرسالة ، قد يكون شخص ،جماعة أو هيئة،2- المرسل إليه(المتلقي للرسالة) قد يكون شخص،جماعة أو هيئة،3-المرجع: الموضوع محور الرسالة سواء أكان ماديا، نفسيا أو فكريا أي المعنى الذي تحمله الرسالة،لذا تؤدي اللغة وظيفة التواصل، تقول جوليا كريستيفا :(إذا كانت اللغة مادة الفكر ،فهي أيضا عنصر للتواصل الإجتماعي، لا مجتمع بلا لغة ، كما لا لغة بلا مجتمع، كما لا مجتمع بلا تواصل )، وهذا ما أكدته المدرسة الإجتماعية (دوركايم، هالفاكس) بأن الفرد لا يمكنه التعرف على نفسه مستقلا عن الآخرين ، بل مع الآخرين بواسطة التواصل اللغوي.ونفس الموقف نجده لدى الفرنسي غوسدورفالذي يرى أن وظيفة اللغة هي التواصل الإجتماعي،فأنا أتكلم مع الآخرين ومع ذاتي أثناء المناجاة الطبيعية، وحتى أثناء التعبير البدائي الطبيعي ،لما يضحك المولود الصغير أو يبكي ،فإنه يطلب حاجة ممن يحيطون به، فالتواصل ليس نتيجة تحصل بالخبرة و الإستدلال بقدر ماهو شرط وجود الإنسان ذاته.

 نقد:

 بالفعل فقد قلد الإنسان ما في الطبيعة من أصوات و رموز وإشارات بهدف التواصل الإجتماعي ،لأنه لم يشعر بهذه الحاجة إلا داخل الجماعة،لكن التواصل لا يعني لغة ،بل الحاجة إلى أداة تبليغ ، هذه الغاية لم تؤسس لغة إلا عندما نشأت العلاقات الإنسانية ،وتشكلت الحاجة النفسية عندما بدأ يفكر إحتاج إلى ما يسمى بلغة التي أبدعها العقل لتأدية وظائف غير التواصل.

 الأطروحة الثانية :(نقيض الأطروحة) :للغة عدة وظائف :(فكرية ،نفسية ، علمية، حضارية، رمزية، إخبارية........الخ)

يذهب فريق ثان من الفلاسفة وعلماء اللغة (ديكارت،برغسون،سارتر، وعالم اللسانيات الروسي: رومانجاكبسون)، أن اللغة لم تستمد من الطبيعة ، ولا تقتصر وظيفتها على التواصل الإجتماعي فحسب،بل هي إنشاء وإبداع فكري لها خصائصها ووظائفها المتعددة. يقول دولان: (اللغة ليست كلمات بل هي حضارة مختصرة في كلمات وسلوك و مواقف وتلك هي سلطة اللغة).

الحجج والبراهين:

    حجتهم في ذلك أن اللغة تشكل النسيج الذي يتحكم في الوظائف العقلية من ذاكرة،إدراك وتخيل ،وبواسطتها يتمكن الإنسان من القيام بمختلف العمليات العقلية مثل: التحليل والتركيب والمقارنة، وبفضل اللغة إستطاع الإنسان أن يرتقي من المستوى الحسي الشخصي إلى المستوى العقلي المجرد ، ويكشف عن المعاني المجردة كما يبدوا لنا ذلك في الفلسفة و الرياضيات(وظيفة فكرية)،كما تسمح اللغة للإنسان بإشباع حاجاته سواء البيولوجية الغريزية، أو النفسية الإنفعالية،فالواحد منا لو شعر بالجوع أو العطش لأمر من حوله بأن يناوله الغذاء أو الماء،كما أنه يخبر عن حاجته للراحة أو الترفيه عن النفس(وظيفة نفعية)، إضافة أن اللغة وسيلة يعبر بها الشخص عن ذاته ، وهذا ما يسمح للغير بمعرفته والتعرف على إهتماماته وتطلعاته، بل وبها يثبت الشخص ذاته ، فالكوجيتو الديكارتي: (أنا أفكر إذا أنا موجود) لا يقوم إلا باللغة وهي أول مهمة لفهم الأنا لذاتها،(وظيفة شخصية)، كما أن اللغة وسيلة الإنسان للتعرف على محيطه طبيعيا كان أم إجتماعيا،حيثيسأل عن أسماء الأشياء ومكوناتها ووظائفها وكيفية إستخدامها، وعن الظواهر الطبيعية وأسباب حدوثها و القوانين المتحكمة فيها،(وظيفة إستكشافية)، فاللغة تنظم سلوك و إستجابات الآخرين من خلال الأوامر و النواهي التي نصدرها للطفل أثناء التربية،توجه سلوكه وتنظمه، ولعل لافتات و إشارات المرور خير ما يثبت ذلك،فهي إشارات إصطلاحية وضعها الإنسان لينظم إستجابات السائقين من خلال الأوامر والنواهي التي تحملها،(وظيفة تنظيمية)، وتتجلى وظيفة اللغة أيضا في كونها نسق من الرموز تجرد الواقع المادي في كلمات تغنيه عن إحضارها،وتعطي الفرد القدرة على الإنفلات من الواقع والهروب من ضغط الحياة اليومية ، من خلال ما يتخيله في القصص أو الأشعار أو أحلام اليقظة،(وظيفة تخيلية)، فاللغة تعتبر شبكة إتصالات تعرفنا بالغير،بنقل تراثه وعلومه للأجيال ، وتخبرنا بكل ما يجري في العالم من أخبار سياسية ، إجتماعية ،ثقافية ،وطبيعية عن طريق وسائل الإعلام،الأمر الذي يمنحها القدرة على التأثير في الجمهور وتوجيه الرأي العام،(وظيفة إخبارية)،كما يوضح لنا عالم اللسانيات الروسي: رومان جاكبسون مقومات اللغة في قدرتها على التشفير ،أي خلق نظام رمزي مشترك بين المرسل والمتلقي،قد يكون كلام،إيماء،لافتات،أو إشارات بصرية،وخير مثال على ذلك الرياضيات التي تتعامل بأدوات عقلية مجردة يتم إدراكها من خلال رموز يضعها الإنسان،(وظيفةرمزية)، فتاريخ تطور اللغة يكشف لنا أن اللغة تطورت في وظائفها، ولا توجد في مستوى تطوري واحد بل هناك مستويات متعددة، أقدمها الإستعمال العملي ثم التصويري أو الفني،و أخيرا الجدلي أو الفلسفي والذي يتطلب مستوى تعليمي أرقى.

  نقد:

لكن كل وظائف اللغة التي ذكرت ما هي إلا شرح وتفصيل لوظيفةالتواصل،فماذا يعني علاقة الانا بالغير إذا لم تكن تعني التواصل الإجتماعي؟ وماذا يعني نقل إبداعاتنا الفكرية و إهتماماتنا النفسية إلى الغير،إذا لم يكن يعني الرغبة في ربط الذات بالجماعة و التواصل معهم؟

  التركيب:

   من خلال طرحنا للموقفين المتعارضين يتضح لنا أن وظيفة اللغة لا تقتصر على التواصل فقط ، بل هي وظيفة فكرية، نفسية، شخصية، رمزية........الخ، فصحيح أن وظيفة اللغة بدأت بالتواصل الإجتماعي الذي ظهر بظهور التجمع الإنساني، لإحتياج الفرد للتواصل مع الآخرين ، لكن الإشكال أن التواصل لا يحتاج بالضرورة إلى لغة ،فله أدوات متعددة ،بدأ بتقليد ما في الطبيعة، الرسم ثم الإيماء والرموز و حركات جسدية وملامح الوجه و الموسيقى، لكن سرعان ما بدأ الفكر يتحرر ويرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانية حيث تحرر من إستعباد الطبيعة فتحررت معه أداة التواصل، فوضع لغة تعبر عنه وتنوعت بتنوعه وتعددت وظائفها، يقول جاكبسون:( اللغة تحمل في ذاتها وسائل الإخفاء و الإظهار حيث يتخذ الفرد الحذر والحيطة في كلامه وهذا يعيق التواصل،خاصة عندما يستخدم الشخص المحسنات البديعية يراوغ ويخفي ويتلاعب بالألفاظ يشوه الحقائق محاولة منه إقناع الغير بصحة فكرته وخطأ فكرة الآخرين، فهل هذا تواصل ؟)، وأنا شخصيا أتبنى الموقف القائل بأن للغة وظائف متعددة ، وبفضلها إنتقل الإنسان من اللغة الفطرية الحيوانية إلى اللغة المنطقية و العلمية مما أكسبها قيمتها الحضارية.

حل المشكلة : 

   من كل مما سبق نستنتج أن وظيفة اللغة لا تقتصر على تحقيق التواصل بين الفرد والجماعة فقط ،بل تتعدى ذلك إلى عدة وظائف أخرى بإعتبارها ضرورة إنسانية و خاصية متميزة ، سواء من حيث طبيعتها كنسق رمزي أو من حيث وظائفها و أغراضها التي تعبر عن إبداع الإنسان و تحضره،تميز الإنسان عن عالم الحيوان لأنها مرتبطة بالفكر، تحفظ للإنسانية تراثها الثقافي و الحضاري على مر العصور بإعتبارها ذاكرة الإنسانية.يقول بارت :(أن تتكلم ليس أن تتواصل بل أن تسود و تسيطر).

هناك 6 تعليقات: