-->

أحدث المواضيع

2020-12-16

هل المفاهيم الرياضية أصلها العقل أم التجربة ؟

                                          هل  المفاهيم الرياضية أصلها  العقل أم التجربة ؟                                       

  هل  المفاهيم الرياضية أصلها  العقل أم التجربة ؟

معالجة بالطريقة الجدلية

طرح المشكلة : ( المقدمة)

   اذا كان لكل شيء اصل، والبحث عن اصل الاشياء من اهم مباحث الفكر الفلسفي ، اذ الفلسفة تبحث عن ماهية الاشياء وقيمتها . فالرياضيات احدى هذه الاشياء ، اذ هي دراسة المقادير الكمية القابلة للقياس أي هي كل ما يخضع للتقدير الكمي ، لذا اختلف معظم الفلاسفة والباحثين عن اصل ومصدر هذه المفاهيم ، فمنهم من اعتبرها قبلية سابقة عن التجربة ومنهم من اقر بانها بعدية مستوحاة من التجربة الحسية ، ومن هنا يمكننا ان نتساءل : هل المفاهيم الرياضية في اصلها الاول صادرة عن العقل بالنظر الى طابعها المجرد ؟ ام انها مستخلصة من معطيات الواقع الحسي ؟ بمعنى اليس للتجربة تأثير في وجودها ؟.     

عرض الاطروحة الأولي : "اصل المفاهيم الرياضية العقل "

   يري اصحاب  النزعة العقلية بزعامة ديكارت ، كانط ،أفلاطون أن أصل المفاهيم الرياضية فطرية نابعة من العقل وموجودة فيه بصورة قبلية، حيث يرى "أفلاطون" أن العقل كان يعيش في عالم المثل، وكان على علم بكافة الحقائق بما فيها المعاني الرياضية كالأعداد والخطوط والأشكال لكنه عند مفارقته لهذا العالم المثالي وهبوطه إلى العالم الحسي نسي أفكاره وكان عليه أن يتذكرها ويدركها حيث يقول "المعرفة تذكر"، وفي نفس الإطار يرى الفيلسوف الفرنسي "رينييه ديكارت " أن المفاهيم الرياضية فطرية أودعها الله فينا ، وأن هذه المفاهيم تتميز بالبساطة والوضوح واليقين.ومصدرها العقل لأن العقل أعدل قسمة بين الناس فمفهوم اللانهاية مثلا لا يمكن أن يكون نابعا من التجربة الحسية لأن هذه الأخيرة متناهية .

  وإلى جانب "ديكارت" نجد الفيلسوف الألماني كانط الذي يفسر هو الآخر أصل المفاهيم الرياضية تفسيرا عقليا بإرجاع المفاهيم الرياضية إلى مبادئ عقلية يولد الإنسان مزودا بها والمتمثلة في مفهومي الزمان والمكان وهما مفهومان رياضيان فطريان قبليان وما يؤكد صحة هذه الأطروحة هو تاريخ الرياضيات نفسه ،إذ يبين أن الرياضيات ولدت مع الإنسان وكانت نشأتها عقلية فقد أنشأ الفراعنة نظام الكسور وقواعد تحديد المثلثات والمستطيلات ، وأبدع البابليون النظام الستيني والعشري ، كما أن المفاهيم الرياضية كالأعداد واللانهائي والصفر والجذر والعلاقات المنطقية ليس لها ما يقابلها في الواقع.

النقد : نلاحظ انه من المؤكد ان المفاهيم الرياضية تمتاز بطابع عقلي مجرد وقد لا نجد تفسيرا لنشأتها الا بإرجاعها الى الاصل العقلي ومن جهة اخرى فان هذا الجانب العقلي هو الذي اكسب الرياضيات هذه الدرجة العالية من اليقين ، ولكن هل القضايا الرياضية هي بالفعل مستقلة عن المعطيات الحسية ؟ واذا كانت عقلية فلماذا لم يكتشفها العقل دفعة واحدة ؟ ثم لماذا نجد اختلاف بين الناس في درجة فهمها علما اننا نملك جميعا عقول ؟ ثم ايضا ما الذي يفسر استعمال الوسائل العملية للقيام بعملية العد والحساب ؟

عرض الاطروحة الثانية : "اصل المفاهيم الرياضية التجربة"

 يرى انصار هذا الموقف ان المبادئ والمفاهيم الرياضية  مصدرها  العالم الواقعي الحسي او التجريبي ،فالعقل شبيه بالصفحة البيضاء كما يرى انصار الموقف التجريبي وعلي رأس الداعين الي هذا القول نجد :  جون لوك  ، دافيد هيوم ،جون ستيوارت مل، اذ يقول جون ستيوارت مل " إن النقط والخطوط والدوائر يحملها كل واحد في ذهنه ، هي مجرد نسخ من النقط والخطوط والدوائر التي عرفها في التجربة " ، ويضيف أن كل ما نعرفه في الرياضيات له مايقابله في الواقع الحسي فالدائرة كمفهوم رياضي يقابلها في الواقع قرص الشمس وحدقة العين.

  كما أن علم النفس التكويني (علم نفس النمو) بزعامة "جون بياجيه " يؤكد أن الطفل الصغير يدرك الأعداد كصفات للأشياء ، فعند إدراكه للمفاهيم الرياضية يمر بمراحل وهي المرحلة الحسية ( مرحلة الإدراك الحسي ) ، ثم المرحلة الحسية العقلية وأخيرا المرحلة العقلية ، إضافة إلى هذا فإن تاريخ الرياضيات يثبت بأن الرياضيات كانت في بداياتها متصلة بالحياة العملية الحسية ، فالحساب كان وليد الحاجة للمقايضة كما أن حاجة المصريين القدامى لمسح الأراضي وقياسها أدت إلى نشأة الهندسة لهذا تطورت هذه الأخيرة بسرعة أكثر من الحساب لإقترابها من الواقع الحسي ، ويؤكد هذه الفكرة كل من جون لوك و دفيد هيوم حيث يقول هيوم " لا يوجد شيئ في الذهن مالم يوجد من قبل في التجربة.

النقد : لكن هل بالفعل تعتبر التجربة الحسية منبع المعاني الرياضية ؟ فلو سلمنا   بان الحواس هي اصل المعطيات الرياضية لكان للحيوان رياضيات لأنه يملك ما لا يملكه الانسان من قوة الحاسة . فلماذا كان للإنسان رياضيات ولم يكن للحيوان رياضيات ؟. ثم هل نجد وجود حسي للمفاهيم التالية:  الجذر ، والزائد ما لانهاية ، والناقص ما لانهاية ؟    

التركيب : 

 ان العقل والتجربة مرتبطان ومتكاملان ومتلازمان فلا وجود لعالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب العالم الخارجي ولا وجود للأشياء المحسوسة في غياب الوعي الانساني وبمعزل عن ملكة تجريدية أي فصل الصفات عن اللواحق المادية وهذا ما اكده جورج سرتون: في دراسته لنشأة الرياضيات وتطور العلوم ، فكلما ارتبطت الرياضيات بالواقع كانت غير يقينية ، وكلما كانت يقينية كانت غير مرتبطة بالواقع . وفي هذا قال بياجي : "ان المعرفة ليست معطى نهائي جاهز بل ان التجربة ضرورية لعملية التشكيل والتجريد.

  وكذلك بالرجوع الي بدايات الرياضيات فقد بدأت تجريبية حسية الي ان تطورة الي مفاهيم مجردة .

خاتمة وحل المشكلة :

نستنتج في الاخير ان المفاهيم الرياضية نتجت عن تفاعل بين العقل والتجربة الحسية أي انها بدأت حسية وانتهت عقلية ، اذ هي من ارقى تجليات العقل ، وهي الرابط الذي ينظم العلاقة بين الفكر والواقع . وفي هذا يقول العالم الرياضي " السويسري " فرديناند غونسيث "Ferdinand Gonseth" : " في كل بناء تجريدي يوجد راسب حسي يستحيل محوه وازالته . وليست هناك معرفة تجريبية خالصة ولا عقلية خالصة ، بل كل ما هناك ان احد الجانبين العقلي والتجريبي قد يطغى على الاخر ، دون ان يلغيه تماما.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق